فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} يعني: قل يا محمد أعتصم وأستعيذ وأستعين بخالق الخلق، والفلق الخلق وأنما سمي الخلق فلقًا لأنهم فُلِقُوا من آبائهم وأمهاتهم ويقال: {أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} يعني: بخالق الصبح، ويقال: فالق الحب والنوى قال الله تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحى ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} [أنعام: 95] وقال: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَنًا والشمس والقمر حُسْبَانًا ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم} [الأنعام: 96] ويقال الفلق واد في جهنم، ويقال: جب في النار.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الفَلَقُ شَجَرَةٌ فِي جَهَنَّمَ فَإِنْ أَرَادَ الله أَنْ يُعَذِّبَ الكَافِرَ بِأَشَدِّ العَذَابِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا».
وروي عن كعب الأحبار أنه دخل في بعض الكنائس التي للروم فقال: أخسر عمل وأضلُّ قوم قد رضيت لكم بالفلق فقيل له ما الفلق يا كعب؟ قال: بئر في النار إذا فتح بابها صاح جميع أهل النار من شدة عذابها.
ثم قال عز وجل: {مِن شَرّ مَا خَلَقَ} قال الجن والإنس وقال الكلبي من شر ما خلق يعني: من شر ذي شر.
ثم قال عز وجل: {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} يعني: ظلمة الليل إذا دخل سواد الليل في ضوء النهار ويقال: {إِذَا وَقَبَ} يعني: إذا جاء وأدبر وقال القتبي: {الغاسق} الليل والغسق الظلمة ويقال: الغاسق القمر إذا انكسف واسودّ {وَإِذَا وَقَبَ} يعني: إذا دخل في الكسوف.
ثم قال تعالى: {وَمِن شَرّ النفاثات في العقد} يعني: الساحرات المهيجات اللواتي ينفثن في العقد ثم قال عز وجل: {وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} يعني كل ذي حسد أراد به لبيد بن أعصم اليهودي ويقال لبيد بن عاصم.
وروى الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال سحر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود عقد له عقدًا فاشتكى لذلك أيامًا فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إن رجلًا من اليهود سحرك فبعث عليًّا رضي الله عنه واستخرجها فحلّها فجعل كلما حل عقدة وجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك خفة حتى حلها كلها فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال فما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لليهود.
وروي في خبر آخر أن لبيد بن أعصم اتخذ لعبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ من عائشة رضي الله عنها فأفحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل في اللعبة أحد عشرة عقدة ثم ألقاها في بئر، وألقى فوقها صخرة فاشتكى من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوًا شديدًا فصارت أعضاؤه مثل العقد فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان إذ أتاه ملكان أحدهما جلس عند رأسه والآخر عند قدميه فالذي عند قدميه يقول للذي عند رأسه ما شكواه قال السحر قال: من فعل به؟ قال لبيد بن أعصم اليهودي قال فأين صنع السحر قال في بئر كذا قال: ماذا رأوه يبعث إلى تلك البئر فنزح ماؤها فإنه انتهى إلى الصخرة فإذا رأها فليقلعها فإن تحتها كؤبة وهي كؤبة قد سقطت عنقها وفيه إحدى عشرة عقدة فيحرق في النار فيبرأ إن شاء الله تعالى فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد فهم ما قالا فبعث عمار بن ياسر وعليًا رضي الله عنهما إلى تلك البئر في رهط من أصحابه فوجدوها كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهم فنزلت هاتان السورتان وهي إحدى عشرة آية فكلما قرأ آية حل منها عقدة حتى انحلت كلها ثم أحرقها بالنار فبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي في بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {قُلْ هُوَ الله أحد} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس} ما سأل منها سائل ولا استعاذ مستعيذ بمثلها قط وهذه الآية دليل أن الرقية جائزة إن كانت بذكر الله تعالى وبكتابه والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة الفلق:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق}
قال ابن عباس: هو سجن في جهنم، وحدّثنا يعقوب عن هشيم قال: أخبرنا العوام عن عبد الجبار الخولاني قال: قدم رجل من أصحاب النبي عليه السلام الشام فنظر الى دور أهل الذمة وما فيها من العيش والنضارة، وما وسع عليهم في دنياهم فقال: لا أُبالي، أليس من ورائهم الفلق؟ قال: قيل: وما الفلق؟ قال: بيت إذا انفتح صاح جميع أهل النار من شدَّة حرَّه.
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: الفلق هي جهنم، وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد ابن جبير ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد: الفلق: الصبح، وإليه ذهب ابن عباس، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: {فَالِقُ الإصباح} [الأنعام: 96].
الضحّاك والوالبي عن ابن عباس: معنى الفلق: الخلق. وهب: هو باب في جهنم.
الكلبي: هو واد في جهنم، وقال عبد الله بن عمرو: شجرة في النار، وقيل: الفلق الجبال والصخور تنفلق بالمياه أي تتشقق، وقيل: هو الرحم تنفلق عن الحيوان، وقيل: الحبَّ والنوى تنفلق عن التراب، دليله قوله سبحانه وتعالى: {فَالِقُ الحب والنوى} [الأنعام: 95] والأصل فيه الشق.
وقال محمد بن علي الترمذي في هذه: كشف الله تعالى على قلوب خواص عباده فقذف النور فيها، فانفلق الحجاب وانكشف الغطاء.
{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو برزة أو أحد بني شريك البزار قال: حدّثنا آدم بن أبي أياس قال: حدّثنا ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: أخذ رسول الله عليه السلام بيدي فأشار الى القمر فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرِّ هذا؛ فإنّ هذا الغاسق إذا وقب».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد الرحمن بن خرزاد البصري بمكة قال: حدّثنا نصر بن علي قال: حدّثنا بكار بن عبد الله قال: حدّثنا ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة «عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} قال: النجم إذا طلع».
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والقرظي والفرّاء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجّاج: الليل.
قال ابن زيد: يعني والثريا إذ سقطت، قال: وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها، وأصل الغسق الظلمة والوقوف: [....] إذا دخل وقال: أمان سكن نظلامه.
وقيل: سُمّي الليل غاسقًا لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد، والغسق: البرد.
{وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها، والنفث: وشبه النفخ كما يعمل من يرقي.
قال عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ** وإنَّ يفقد محقّ له العقود

وقرأ عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن سابط: {من شرِّ النافثات} في وزن: فاعلات.
{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال الحسين بن الفضل: إنَّ الله جمع الشرور في هذه الآية وختمها بالحسد ليعلم أنه أخسّ الطبائع. اهـ.

.قال الزمخشري:

سورة الفلق:
مكية.
وقيل مدنية.
وآياتها 5.
نزلت بعد الفيل.
بسم الله الرحمن الرحيم

.[سورة الفلق: الآيات 1- 5]

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)}
الفلق والفرق: الصبح، لأن الليل يفلق عنه ويفرق: فعل بمعنى مفعول. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح. ومنه قولهم: سطع الفرقان، إذا طلع الفجر.
وقيل: هو كل ما يفلقه اللّه، كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك.
وقيل: هو واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض: الفلق. والجمع: فلقان.
وعن بعض الصحابة أنه قدم الشأم فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالى، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم اذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه {مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ} من شر خلقه. وشرهم: ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم، ومضارّة بعضهم بعضا من ظلم وبغى وقتل وضرب وشتم وغير ذلك، وما يفعله غير المكلفين منه عن الأكل والنهس واللدغ والعض كالسباع والحشرات، وما وضعه اللّه في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم. والغاسق: الليل إذا اعتكر ظلامه من قوله تعالى: {إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ} ومنه: غسقت العين امتلأت دمعا، وغسقت الجراحة امتلأت دما. ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء. ويقال: وقبت الشمس إذا غابت.
وفي الحديث: «لما رأى الشمس قد وقبت قال: هذا حين حلها»، يعنى صلاة المغرب.
وقيل: هو القمر إذا امتلأ.
وعن عائشة رضى اللّه عنها: «أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوّذى باللّه من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب».
ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده. ويجوز أن يراد بالغاسق: الأسود من الحيات: ووقبه: ضربه ونقبه.
والوقب: النقب. ومنه: وقبة الثريد، والتعوّذ من شر الليل لأن انبثاثه فيه أكثر، والتحرّز منه أصعب. ومنه قولهم: الليل أخفى للويل. وقولهم: أغدر الليل، لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه.
{النَّفَّاثاتِ} النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين: والنفث النفخ من ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثم إطعام شيء ضار، أو سقيه، أو إشمامه. أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكنّ اللّه عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام، فينسبه الحشو والرعاع إليهنّ وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به.
فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرهن؟
قلت: فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك.
والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن. والثالث: أن يستعاذ مما يصيب اللّه به من الشر عند نفثهن، ويجوز أن يراد بهن النساء الكيادات، من قوله: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} تشبيها لكيدهن بالسحر والنفث في العقد.
أو اللاتي يفتن الرجال بتعرّضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك {إِذا حَسَدَ} إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه: من بغى الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره.
وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد. ويجوز أن يراد بشر الحاسد: إثمه وسماجة حاله في وقت حسده، وإظهاره أثره.
فإن قلت: قوله: {مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ} تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟
قلت: قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به. وقالوا: شر العداة المداجى الذي يكيدك من حيث لا تشعر.
فإن قلت: فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟
قلت: عرفت النفاثات، لأن كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق، لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضرّ. ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا حسد إلا في اثنتين» وقال أبو تمام:
وما حاسد في المكرمات بحاسد

وقال:
إنّ العلا حسن في مثلها الحسد

عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها اللّه تعالى كلها». اهـ.

.قال الماوردي:

سورة الفلق:
وهذه والناس معوذتا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سحرته اليهود، وقيل إن المعوذتين كان يقال لهما (المقشقشتان) أي مبرئتان من النفاق، وزعم ابن مسعود أنهما دعاء تعوذ به وليستا من القرآن، وهذا قول خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت.
{قُلْ أَعُوذُ بربِّ الفَلَقِ} فيه ستة تأويلات:
أحدها: أن الفلق سجن في جهنم، قاله ابن عباس.
الثاني: أنه اسم من أسماء جهنم، قاله أبو عبد الرحمن.
الثالث: أنه الخلق كله، قاله الضحاك.
الرابع: أنه فلق الصبح، قاله جابر بن عبد الله ومنه قول الشاعر:
يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتفقا ** أرْعى النجومَ إلى أنْ نوَّرَ الفَلَقُ

الخامس: أنها الجبال والصخور تنفلق بالمياه.
السادس: أنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى وكل شيء من نبات وغيره، قاله الحسن.
ولأصحاب الغوامض أنه فلق القلوب للأفهام حتى وصلت إليها ووصلت فيها، وأصل الفلق الشق الواسع، وقيل للصبح فلق لفلق الظلام عنه كما قيل له فجر لانفجار الضوء منه.
{مِن شَرِّ ما خَلَق} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن شر ما خلق جهنم، قاله ثابت البناني.
الثاني: إبليس وذريته، قاله الحسن.
الثالث: من شر ما خلق في الدنيا والآخرة، قاله ابن شجرة.
وفي هذا الشر وجهان:
أحدهما: أنه محمول على عمومه في كل شر.
الثاني: أنه خاص في الشر الذي يستحق المصاب به الثواب.
{ومن شَرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: يعني الشمس إذا غربت، قاله ابن شهاب.
الثاني: القمر إذا ولج أي دخل في الظلام.
روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة تعوذي بالله من شر غاسقٍ إذا وقب، وهذا الغاسق إذا وقب.
الثالث: أنه الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عنذ وقوعها، وترتفع عند طلوعها، قاله ابن زيد.
الرابع: أنه الليل، لأنه يخرج السباع من آجامها، والهوام من مكامنها ويبعث أهل الشر على العبث والفساد، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي، قال الشاعر:
يا طيْفَ هِنْدٍ لقد أبقيْتَ لي أرَقا ** إذ جئْتَنا طارِقًا والليلُ قد غَسَقا

وأصل الغسق الجريان بالضرر، مأخوذ من قولهم غسقت القرحة إذا جرى صديدها، والغسّاق: صديد أهل النار، لجريانه بالعذاب وغسقت عينه إذا جرى دمعها بالضرر في الحلق.
فعلى تأويله أنه الليل في قوله: {إذا وقب} أربعة تأويلات:
أحدها: إذا أظلم، قاله ابن عباس.
الثاني: إذا دخل، قاله الضحاك.
الثالث: إذا ذهب، قاله قتادة.
الرابع: إذا سكن، قاله اليمان بن رئاب.
{ومِن شَرِّ النّفّاثاتِ في العُقَدِ} قال أهل التأويل: من السواحر ينفثن في عقد الخيوط للسحر، قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا ** تِ في عِضَه العاضه المعْضِه

وربما فعل قوم في الرقى مثل ذلك، طلبًا للشفاء، كما قال متمم بن نويرة:
نَفَثْت في الخيط شبيه الرُّقَى ** من خشيةِ الجِنّة والحاسدِ

وقد روى الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئًا وكل إليه»، النفث: النفخ في العقد بلا ريق، والتفل: النفخ فيها بريق، وفي {شر النفاثات في العقد} ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه إيهام للأذى وتخيل للمرض من غير أن يكون له تأثير في الأذى والمرض، إلا استشعار ربما أحزن، أو طعام ضار ربما نفذ بحيلة خفية.
الثاني: أنه قد يؤذى بمرض لعارض ينفصل فيتصل بالمسحور فيؤثر فيه كتأثير العين، وكما ينفصل من فم المتثائب ما يحدث في المقابل له مثله.
الثالث: أنه قد يكون ذلك بمعونة من خدم الجن يمتحن الله بعض عباده.
فأما المروي من سحر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أثبته أكثرهم، وأن قومًا من اليهود سحروه وألقوا عقدة سحره في بئر حتى أظهره الله عليها.
روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة، فبينا هو بين النائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما: ما شكواه؟ فقال الآخر: مطبوب، (أي مسحور، والطب: السحر) قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي فطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج السحر منها، ويروى أن فيه إحدى عشرة عقدة، فأمر بحل العقد، فكان كلما حل عقدة وجد راحة، حتى حلت العقد كلها، فكأنما أنشط من عقال، فنزلت عليه المعوذتان، وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد، وأمر أن يتعوذ بهما.
وأنكره آخرون، ومنعوا منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صح في غيره، لما في استمراره عليه من خبل العقل، وأن الله تعالى قد أنكر على من قال في رسوله حيث يقول: {إن تتبعون إلا رجلًا مسحورًا}.
{ومن شر حاسد إذا حسد} أما الحسد فهو تمني زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها، والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل، فالحسد شر مذموم، والمنافسة رغبة مباحة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن يغبط والمنافق يحسد». وفي الاستعاذة من شر حاسد إذا حسد وجهان:
أحدهما: من شر نفسه وعينه، فإنه ربما أصاب بها فعان وضر، والمعيون المصاب بالعين، وقال الشاعر:
قد كان قومُك يَحْسبونك سيّدا ** وإخال أنك سيدٌ مَعْيونُ

الثاني: أن يحمله فرط الحسد على إيقاع الشر بالمحسود فإنه يتبع المساوي ويطلب العثرات، وقد قيل إن الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء والأرض فحسد إبليس آدم حتى أخرجه من الجنة، وأما في الأرض فحسد قابيل بن آدم لأخيه هابيل حتى قتله، نعوذ بالله من شر ما استعاذنا منه.
وافتتح السورة بـ: {قُلْ} لأن الله تعالى أمر نبيه أن يقولها، وهي من السورة لنزولها معها، وقد قال بعض فصحاء السلف: احفظ القلاقل، وفيه تأويلان:
أحدهما: قل {قل} في كل سورة ذكر في أوائلها لأنه منها.
والثاني: احفظ السورة التي في أولها {قل} لتأكيدها بالأمر بقراءتها. اهـ.